Research 1 Research 2 Research 3

التعلّم الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي – الجزء الثاني

يشهد حقل التعلّم اليوم تحوّلًا جوهريًا لا يتمثّل فقط في صعود المحتوى المُنتَج عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، بل في تراجع حضور الميسّرين والميسّرات والمعلّمين والمعلّمات الذين يمكن التعرّف عليهم، ممن يقفون خلف العديد من العروض التعليمية على الإنترنت. تبدو الدورات أكثر امتلاءً وتنظيمًا وجاذبية من أي وقت مضى، غير أنّها غالبًا ما تفتقر إلى العنصر الأساسي الذي يجعل التعلّم ممكنًا:

وجود إنسان يمتلك معرفة ومنهجية ومساءلة وممارسة حيّة.

في عصر الذكاء الاصطناعي، لا يكون سؤال «من يقف خلف هذا؟» سؤالًا تجميليًا أو شكليًا؛ بل هو سؤال معرفي وأخلاقي وسياسي في آن واحد.

ويقدّم هذا المقال الثاني ضمن سلسلة CTDC «التعلّم الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي» قراءة في أسباب كون الأشخاص ومواقعهم وخلفياتهم البيداغوجية التي تقف خلف أي دورة تعليمية عناصر جوهرية بقدر جوهرية المحتوى ذاته.

🌱 صعود المزوّد اللامرئي

مع ازدياد سهولة الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي، نشهد توسّعًا في العروض التعليمية التي تتّسم بما يلي:

  • غياب أسماء الميسّرين والميسّرات

  • غياب المصمّمين والمصمّمات والمساهمين والمساهمات بأسمائهم

  • سير ذاتية عامة مكتوبة بالصوت نفسه وبعبارات متشابهة

  • صور ملفات شخصية مولَّدة عبر الذكاء الاصطناعي أو صور مخزونة جاهزة

  • صفحات «من نحن» مطوّلة لا تقدّم أي معلومات محدّدة

  • إشارات إلى «مربّين ومربّيات عالميين» أو «خبراء دوليين» دون أي وجود يمكن التحقّق منه

وتقدّم هذه العروض وعودًا مصقولة مثل:
“بقيادة خبراء عالميين”.
“بتصميم ممارسين دوليين”.
“طوِّر من قبل فريق متعدد التخصصات”.

لكن لا يظهر اسم إنسان واحد.

ولا تُذكر أي سلاسل معرفية أو خلفيات منهجية.

ولا يُفسَّر الأساس الذي تستند إليه هذه الممارسة التعليمية.

وعليه، يُعاد تأطير الإخفاء بوصفه مهنية واحترافًا. ويمثّل هذا تحوّلًا عميقًا ومقلقًا في آن معًا.

🧠 لماذا يهم الإنسان الذي يقف خلف المعرفة؟

لا يقوم التعلّم على نقل محتوى محايد من نقطة إلى أخرى؛ إذ يتشكّل التعلّم من خلال:

  • من يعلّم

  • وما الذي يعرفه

  • وكيف بنا هذه المعرفة عبر الزمن

  • وما الالتزامات الأخلاقية التي توجه عمله

  • وكيف يتموضع في علاقته بالسلطة والسياقات المختلفة

وتؤثّر موقعية المعلّمين والمعلّمات – أي هوياتهم وتجاربهم ولغاتهم ومواقعهم الاجتماعية وتواريخهم – في الأطر النظرية التي يعتمدونها، والأمثلة التي يختارونها، والافتراضات التي ينطلقون منها.

وحين لا يتمكّن المتعلّمون والمتعلّمات من رؤية من يقف خلف الدورة، يصبحون عاجزين عن تقييم ما يلي:

  • مصداقية المعرفة المقدَّمة

  • السياسة الكامنة خلف المنهجية المستخدمة

  • ما إذا كان لدى الميسّرين والميسّرات خبرة حقيقية في المجال

  • ما إذا كان المحتوى منقولًا أو مستنسخًا من نماذج قائمة

  • ما إذا كان هذا المحتوى مستندًا إلى عمل ميداني ومعرفي موثَّق

  • والالتزامات الأخلاقية التي تُؤطِّر عملية التصميم التعليمي وتنفيذه

الدورة التي لا يقف خلفها أشخاص يمكن التعرّف عليهم ليست دورة تعليمية؛ بل هي حملة تسويق للمحتوى.

🧩 وهم الخبرة: دور الذكاء الاصطناعي في إخفاء الغياب

أتاح الذكاء الاصطناعي إنتاج انطباع زائف بالخبرة، من خلال أنماط شائعة من بينها:

١. السير الذاتية العامة والمتشابهة
تتضمّن السير الذاتية المولَّدة آليًا عادةً عبارات فضفاضة مثل: «خبير دولي في القيادة»، «اختصاصي معروف في العدالة والتنوع والمساواة»، «مدرّب عالمي في الحماية من الاستغلال والاعتداء»، دون ذكر مؤسسات أو منشورات أو تواريخ مهنية يمكن التحقّق منها.

٢. صور الملفات الشخصية المولَّدة بالذكاء الاصطناعي
تنتج الأدوات اليوم صورًا فائقة الصقل تبدو واقعية ومقنعة، لكنّها لا تعود إلى أي شخص مهني موجود في العالم الفعلي.

٣. حسابات لينكدإن وإنستغرام بلا أشخاص حقيقيين

  • تتّسم العديد من هذه الحسابات بغياب ما يلي:

  • صور لاجتماعات فرق أو مساحات عمل مشتركة

  • مواد من خلف الكواليس توثّق عملية التعليم أو التعاون

  • أدلة على ورش أو لقاءات أو عمل ميداني

  • تأملات شخصية أو تعليقات ذاتية من الميسّرين والميسّرات

  • تعليقات من أفراد يمكن التعرّف على حضورهم ومساراتهم

وبدلًا من ذلك، يتكوّن الأثر الرقمي بالكامل تقريبًا من:

  • رسومات وتصاميم مُنتجة بالذكاء الاصطناعي

  • مقاطع ترويجية مصقولة

  • اقتباسات «ملهمة»

  • أطر عامة ومجرّدة للغاية

ومن خلال ذلك، كلّما أصبح «وجه» الدورة ذكاءً اصطناعيًا، غالبًا ما يصبح محتواها في جوهره كذلك أيضًا.

🔍 البيداغوجيا ممارسة إنسانية وليست خوارزمية

تُفهَم البيداغوجيا – بوصفها الفلسفة والبنية التي تنظّم عملية التعلّم – على أنّها ممارسة علاقاتية تتطلّب:

  • الحوار

  • التفكّر والمساءلة الذاتية

  • البناء المشترك للمعنى

  • الوعي الأخلاقي

  • الحساسية للسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية

ويمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تدعم الصياغة وكتابة المواد، لكنّها لا يمكن أن تقوم بما يلي:

  • تفسير خبرة المتعلّم أو المتعلّمة في ضوء السياق الذي يعيشانه

  • التعامل مع الديناميات العاطفية داخل المجموعة

  • تيسير المحادثات الصعبة أو الصراعات الحسّاسة

  • مواءمة الأمثلة مع سياقات ثقافية أو سياسية بعينها

  • مرافقة شخص يمرّ عبر عملية تعلّم مزعزِعة أو مربِكة

  • تحدّي الافتراضات أو الممارسات الضارّة التي تظهر أثناء التعلّم

ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ هذه ليست وظائف إضافية يُمكن الاستغناء عنها، بل هي شروط جوهرية للتعلّم الأخلاقي، خصوصًا في الحقول التي تتقاطع مع السلطة والعدالة والضرر والرفاه.

وحين يختفي الأشخاص خلف الشاشة، يصبح من المتعذّر القيام بهذه الوظائف على نحو مسؤول.

⚖️ لماذا يشكّل الغياب قضية حوكمة معرفية؟

لا يقتصر اختفاء الميسّرين والميسّرات على مسألة جمالية أو أسلوبية، بل يعكس، في جوهره، تحوّلًا أعمق في كيفية حوكمة المعرفة ذاتها. ومن خلال ذلك، تبرز مخاطر عدّة، من بينها:

  • غياب المساءلة
    لا يتحمّل أي شخص مسؤولية المحتوى غير الدقيق أو المؤذي أو غير الأخلاقي.

  • غياب الإطار الأخلاقي
    لا يعرف المتعلّمون والمتعلّمات القيم أو المبادئ التي تستند إليها الدورة أو المنهجية.

  • غياب معايير الحماية
    لا تتمكّن دورة بلا ميسّرين وميسّرات معروفين من إدارة الإفصاحات الحسّاسة أو الضيق العاطفي أو الأذى الذي قد يتعرّض له المشاركون والمشاركات.

  • غياب التحقّق من الخبرة
    لا يمكن التثبّت من المؤهلات أو الخبرات التي يدّعيها مقدّمو ومقدّمات الدورة.

  • إعادة تدوير المعرفة دون نسب أو اعتراف
    تعمد العديد من هذه العروض إلى إعادة إنتاج أطر ونماذج قائمة دون الإشارة إلى مصادرها أو سلاسلها المعرفية، وهو ما يشكّل شكلًا من أشكال الاستخلاص المعرفي والسرقة الفكرية.

ومع انخفاض الحواجز أمام الإنتاج عبر الذكاء الاصطناعي، يُستخدَم الإخفاء كوسيلة لتجاوز المسؤولية والرقابة. وبناءً على ذلك، لا يكون الكشف عن الأشخاص الذين يقفون خلف الدورة تفضيلًا شخصيًا، بل ضرورة حوكمية ومعيارًا أساسيًا للثقة.

🧭 الحقول الأكثر عرضة لوهم الخبرة

تبدو بعض الحقول التعليمية معرّضة بشكل خاص لخطر العروض المؤتمتة التي تُقدَّم بواجهة إنسانية زائفة، من بينها:

  • الحماية ومنع الاستغلال والاعتداء الجنسي (PSEA)
    غالبًا ما تفتقر المواد المولَّدة آليًا في هذا المجال إلى أخلاقيات تتمحور حول المتضرّرات والمتضرّرين، وتُهمِل الأبعاد العلاقاتية والعاطفية للضرر.

  • المساواة والتنوع والعدالة الجندرية
    تحتاج هذه الحقول إلى تحليل سياسي، ومعرفة تقاطعية، ورؤية سياقية متجذّرة؛ وهي عناصر لا يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاجها بمعزل عن خبرة بشرية نقدية وممارسة ميدانية.

  • الممارسات الحسّاسة للصدمة
    لا تستطيع الأدوات الخوارزمية ترجمة أدبيات الصدمة أو مرافقة المتعلّمات والمتعلّمين في التعامل مع المحتوى العاطفي الحسّاس بطريقة مسؤولة وآمنة.

  • الحوكمة والقيادة
    تُعدّ القيادة ممارسة علاقاتية وثقافية وسياقية؛ وعندما تُنتَج موادها آليًا، غالبًا ما تُختزَل في شعارات وكليشيهات سطحية.

  • العلاجات الشمولية ودورات «الشفاء»
    ترتفع مخاطر التزييف والضرر بشكل حاد عندما يُقدَّم محتوى «علاجي» أو «شفائي» من دون تأطير تنظيمي ومهني واضح، ومن دون ضوابط أخلاقية ومساءلة.

  • وعليه، كلّما كان الحقل أكثر إنسانية وتجذرًا في الخبرة الحياتية والعلاقات، ازداد خطر «الخبرة» المصطنعة التي ينتجها الذكاء الاصطناعي.

🔍 كيف نتحقّق من أنّ الدورة يقف خلفها أشخاص حقيقيون؟

يمكن للمتعلّمين والمتعلّمات القيام بخطوات بسيطة تساعدهم على التمييز، من بينها:

١. البحث عن الأسماء
التحقّق ممّن ذُكروا بوصفهم ميسّرين وميسّرات، أو مصمّمين ومصمّمات، أو مساهمين ومساهمات في الدورة.

٢. فحص السير الذاتية
الانتباه إلى ما إذا كانت السير الذاتية تتضمّن مؤسسات أو منشورات أو خبرات يمكن تتبّعها، أو إذا كانت مجرّد قوالب عامة قابلة للنسخ واللصق.

٣. البحث خارج الموقع الإلكتروني
القيام بالبحث عن هؤلاء الأشخاص في منصّات مهنية، أو في تقارير، أو ضمن تواريخ منظمات ومؤسسات؛ للتأكّد من وجود مسارات مهنية ومعرفية قابلة للتوثيق.

٤. متابعة وسائل التواصل الاجتماعي
النظر فيما إذا كانت الحسابات تظهر فعاليات حقيقية، وورش عمل، وتفاعلات، وتأملات، أم أنّها تقتصر على محتوى ترويجي وصور مصقولة.

٥. البحث عن السلاسل والأصول المعرفية
التدقيق فيما إذا كان مقدّمو ومقدّمات الدورة يذكرون الأطر أو التقاليد أو المدارس الفكرية التي يستندون إليها، أو ما إذا كانوا يقدّمون كل شيء بوصفه «أفضل الممارسات العالمية» دون نسب أو سياق.

تستغرق هذه الخطوات القليلة دقائق معدودة، لكنّها تكشف الكثير عن طبيعة الدورة ومن يقف خلفها.

🌍 في مركز التنمية والتعاون عبر الأوطان CTDC

ترتكز ممارستنا على:

  • ممارسين وممارسات يمكن التعرّف عليهم وعلى مساراتهم المهنية والمعرفية

  • عقود من البحث، والعمل الميداني، والمرافقة المؤسسية والتنظيمية

  • بيداغوجيات نسوية وتأويلية ومناهضة للاستعمار

  • تواريخ موثّقة من التعاون والشراكة مع فاعلين وفاعلات في الميدان

  • منشورات وأعمال واضحة من المواد المعرفية المتاحة للعموم

ومع تطوير أكاديمية المركز ومعسكرات الممارسة المقبلة، نواصل في هذا الإطار التركيز على:

  • الشفافية

  • المساءلة العلاقاتية

  • الخبرة القابلة للتتبّع والتحقّق

  • التحليل السياقي والسياسي المتجذّر

  • التصميم التعليمي الصارم والمتماسك

وفي سياق تُسوَّق فيه العروض المجهولة بوصفها مرادفًا للاحترافية، نتمسّك بنقيض ذلك بصورة واعية. يستحق المتعلّمون والمتعلّمات أن يعرفوا ممن يتعلّمون، وماذا يمثّل، ولماذا تهمّ معرفته، وكيف تشكّلت هذه المعرفة عبر الممارسة والعلاقات.

للتواصل ولمعرفة المزيد حول فلسفة التعلّم في CTDC، وحول الإطلاق المرتقب لأكاديمية  CTDC، نرحّب برسائلكم واستفساراتكم.
 

تواصلوا معنا

لديكم أسئلة؟ أفكار؟ رغبة في التعاون؟ نحن هنا ونحب أن نسمع منكم، فلا تترددوا في مدّ جسور التواصل!

"

"